تعد كتب النوازل من الذخائر النفيسة التي لا يستغني الفقيه عن الإفادة منها في تبين معالم منهج الفقهاء في استنباط الأحكام وكيفية تنزيلها على وقائع الناس المختلفة، ويمكن الإفادة منها أيضاً في الوقوف على الأدوات التي ينبغي أن يتوفر عليها الفقيه النوازلي من معرفة واسعة بالنصوص الشرعية واستيعاب للقواعد والضوابط الفقهية والأصولية، واستلهام لمقاصد الشريعة وغاياتها، ولهذا يمكن اعتبار هذا اللون من التأليف التطبيقالعملي للفقه الإسلامي، والمجال الخصب للاجتهاد والفقه الواقعي الذي نحن اليوم في أمس الحاجة إلى إحيائه.
ويعد كتاب منتخب الأحكام لابن أبي زَمَنِين(ت399هـ) ـ الذي بين أيدينا ـ من أشهر المصنفات التي تناولت نوازل الأقضية والأحكام، قسمه مؤلفه إلى عشرة أجزاء تضمنت مسائل الدعوى والقضاء والشفعة والحيازة والنكاح والطلاق والبيوع والعيوب والإجارة ومسائل أخرى متنوعة، اجتهد في استخراجها من أمهات كتب الفقهاء المالكية، وانتخابها من مختلف المظان؛ ليجد فيها القاضي بغيته فيستغني بمطالعتها عن البحث في بطون الكتب أو الرجوع إلى المشاوَرين.
وبالرجوع إلى تاريخ التأليف في فقه النوازل نجد كتاب منتخب الأحكام من الكتب الرائدة عند المالكية في موضوعه، فهو من أوائل المصنفات في نوازل الأحكام، وهو من الكتب السائرة المعتمدة، فكل من جاء بعد ابن أبي زمنين عيال عليه في هذا الكتاب، وليس غريباً أن يكون هذا الكتاب بهذه المنزلة، فمؤلفه ابن أبي زمنين هو فقيه قرطبة في زمانه بلا منازع، وشيخها ومفتيها ومحدثها بلا مدافع، كان عارفاً بمذهب مالك، بصيراً به، حافظاً للمسائل، فقيهاً مقدماً، مع النسك والورع رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلومه.
وقد ظل هذا الكتاب النفيس حبيس رفوف المخطوطات لم ينشر منه سوى قسم يسير من أوله ـ يمثل نحو خمسه ـ حتى قيَّض الله له مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء لينشر نصه الكامل لأول مرة بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد حماد الذي اعتمد في ضبط نصوصه على ثمان نسخ خطية، ونال به شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية، والله الموفق.