لعل الاهتمام بالتراجم والأعلام من ميزات الحضارة العربية والإسلامية في تلك الحقبة، إذ تمدنا هذه الكتب بثبت إحصائي يعرف بالحكماء والعلماء ممن اشتهر أو غمر. وهذا زاد يفتح آفاق الدارسين على أعمال أولئك وأبحاثهم، كما يزيد معرفتنا بظروفهم التاريخية والاجتماعية فتتعرف عن كثب على آلية تلك المجتمعات وارتباط العلماء بالحكام والعامة، ومن ثم تلعب هذه الأعمال دورين: علمي توثيقي تراثي، ووصف تاريخي مفصل.
وقد سبق البيهقي كثيرون إلى هذا العمل، ولا سيما السجستاني صاحب صوان الحكمة، الذي شكل الكتاب الذي بين أيدينا تتمة له، والأرجح أن التتمة اتبعت التسلسل التاريخي إذ توقف السجستاني عند علماء القرن الرابع هجري وما قبل نتيجة وفاته فأكمل البيهقي سير علماء الخامس وشيء من السادس الهجريين.
بلغ عدد العلماء والحكماء الواردين في تتمة البيهقي ماية وأحد عشر علماً، جلهم من حكماء خوارزم وخراسان وفارس والعراق، ولم يرد أحد ك م الشام وإفريقية والأندلس كما ذكرنا. ولم يتميز البيهقي بين هؤلاء العلماء فبعضهم لم يكن مسلماً بل من الصابئة والمجوس واليهود والنصاري، لكنهم جميعاً نشأوا في ديار الإسلام وكتبوا مؤلفاتهم في اللغة العربية وجزءاً يسيراً بالفارسية.
وقد عرفنا كتاب التتمة بجمهرة العلماء والحكماء الذين كانوا من الأطباء والفلكيين والرياضيين والمنجمين، وما كان لهم من تصانيف في الحكمة والنجوم والهندسة. بمثل ما عرفنا بطريقة ارتباط أصحاب السلطان بهؤلاء وتعاملهم معهم إن في مشاركتهم الحسنة في العلم وإن في الخدمات الصحية أو التنجيمية لهم. كما أ، هذا الكتاب يظهر لنا الكثير من عبارات التبجيل والألفاظ الطنانة التي سرت بين العلماء تزلفاً لأصحاب السلطان أو شعارات وألقاب كست اسم الحكيم، بينما لم يظهر هذا الأمر في صوان الحكمة للسجستاني.
ولقد ترجم البيهقي لمعظمهم بإيجاز باستثناء ابن سينا والبعض الآخر كما ترجم لمغمورين ولمشهورين أمثال الفارابي والبيوني والرازي وابن الهيثم وابن سهلان والراغب ومسكويه والبلخي و ابن عدي وابن إسحاق. وإذ نعثر إلى شروح في تراجم هؤلاء لم ترد في كتب السير والتراجم الأخرى ذات الطابع المطول. وقد وردت لهم وهذه ميزة هذا الكتاب، حكم لطيفة وأشعار وأمثال، حيث نجد مقابل هذا عدم اهتمام بسني ولادتهم ووفاتهم. ونلمح أحياناً عدم ذكر اسم الرجل الحقيقي بل ورود كنيته أو شهرته ولقبه.
إلا أن هذه الشروح لا تخفي على القارئ اليوم فيما تحمله أحياناً من مبالغات وذكر آراء وأحداث لها الطابع غير الواقعي، أي تحمل شيئاً من الخيال والمخيال. لكن ذلك لا ضير فيه لأن أهمية الكتاب فيما يلتقط من جزئياته من تفاصيل من تفاصيل علمية وتاريخية تعود أهميتها إلى أن البيهقي قد عايشها وجاورها وكان قريباً لها في الزمان والمكان. فلم يأخذ عن سابق له. وهذا يجعل الكتاب محملاً بالمصداقية والصورة المنعكسة للعصر ومؤلفيه.